أخر المقالات
تحميل...
ضع بريدك هنا وأحصل على أخر التحديثات!

عـــالــمـك الــخـاص بـــك!.

الجمعة، 11 سبتمبر 2015

الوقت رخيص ......

 الوقت رخيص 

في مقهى المتبولي كل شيء رخيص .. الوقت رخيص .. و الكلام رخيص .. و الضحك رخيص .
تستطيع أن تدفع ثمن كوب من الشاي و تجلس .. فتأتي الحياة إلى مائدتك .. تأتي إليك آخر الأخبار .. و آخر الإشاعات .. و آخر النكت .. و يسعى إليك رجل ليمسح حذاءك .. و رجل آخر ليقرأ عليك موعظة .. و آخر يسحب لك قرداً .. و آخر يبتلع منشاراً و يحملك أنت و كرسيك على أرنبة أنفه .. و يقول إنه فنان يأكل أربعة أرغفة في الفطور من عرق جبينه .
و على الرصيف بين كيزان الحِلبة و الطراطير و باعة الكشري تجد نفسك جزءاً من " سينما سكوب " شعبي يتغير بإستمرار .
الجرسون و هو يحمل على ذراعه ثلاث طلبات و شيشة و طاولة و طقطوقة و يترنح و هو يصيح " أيوة المضبوط معايا .. أهوه " و المحامي الشرعي و هو يجلس لا يبدو منه إلا قفاه و قبضة يده و هي تروح و تجيء في حلقات من الدخان .. القضية في إيدي اليمين .. النفقة .. و المقدم .. و المؤخر .. و البهدلة كمان .. كله على الله و عليَّ .. هي دي أول قضية والا آخر قضية يا بو سليمان ؟
و شلبي أفندي صاحب المونوكل و البابيون و المنشة ..
و مكوجي الرِجل بدِكة سرواله التي تتدلى على الأرض .
و العمدة و السمسار .. و بائع القلل .. و النشال .. و مدرس الخط .. و مأمور الضرائب .. و المأذون .. و الشمَّاس .. و العرضحالجي .. و مائة آدمي . منكفئون على الموائد يلعبون النرد و يتهامسون و يتشاجرون و يعلو شجارهم فنسمع بين قرقعة الدُش و الدَبَش كلماتهم المبحوحة .
_ دي معاملة يا راجل .. ده كلام تقوله .. أرُدَّها .. أردها ازاي .. و الشنب ده كله يروح فين .. دنا أقطع الدراع اللي تتمد لها ! .. دي واحدة ما يتمرش فيها العِشرة و المعروف ..
خمس سنين .. و انا شايلها في عينيه .. هات يا زكي .. روح يا زكي .. اقبض يا زكي .. ادفع يا زكي لما داخ زكي و غلب .. و آخر المواخر تعمل فيَّ كده .. و عاوزني أردها .. أردها ازاي ! ده الطلاق فيها شوية ..دي عاوزة الدبح .. الدبح و الكعبة الشريفة يا شيخ .. و حق المقام الطاهر .. وحياتك يا نعمة .. إني بِعت أهلي على الولية دي . و خربت بيتي و شردت عيالي .
بلاش تعاملني أنا عامل ربنا .. عامل ضميرك .. و خليك حاكم عادل .. يرضيك خرابي .. يرضيكوا انتوا يا ناس .. دنا زكي .. زكي أبو الدهب .. اللهم طولك يا روح .. زكي يطاطي لولية قليلة الأصل .. و يرجع في كلامه .. طب و الله لأنا رايح مخلص على الولية دي عشان ترتاحوا .. أوعوا بقه .. أوعوا سيبوني .. أوعوا يا ناس ..
و تتشابك حلقة الناس حول الزوج المهتاج .. فيجلس و هو يسب و يلعن ، ثم تعود الضجة فتغرق في قرقعة الدِش و الدبَش من جديد ..
و يتسلل إلى المقهى رجل ضامر هزيل يبيع الكتب .. و ينادي عليها بصوت رفيع مخنوق ..
إبتهالات .. أوراد .. إستخارات .. خطب منبرية .. أحاديث محمدية .. تفاسير ..
و يدور في المقهى مرتين .. ثم يتوقف عند جماعة من إخواننا الأقباط و يهمس :
قصص الآباء اليسوعيين .. أقانيم حنا و بولس . و صايا القمص جورجيوس .. كلمات بطرس الناسك ..
و يختفي في الزحام ثم يعود للظهور ليدس في يد كل واحد إعلاناً و يوشوش في أذنه ..
كتاب غرامي ، إجتماعي تناسلي .. قصة امرأة باعت جسدها للشيطان .. صورة صريحة تعرفك بالمرأة على حقيقتها ، مائة صفحة من اللذة المتواصلة ! .. أسرار الحياة الجنسية تُكتَب لأول مرة ..
و يفتح الكتاب على رسم عارٍ و يلوح به في إغراء ثم يرفع عقيرته من جديد :
إبتهالات .. أوراد .. إستخارات .. خطب منبرية .. أحاديث .. تفاسير ..
و يختفي بين الموائد المزدحمة و سُحُب الدخان .. و يصفق زبون في الركن . و يطلب قهوة على الريحة .. ثم ينسى الطلب و ينام . و ينام على وجهه الذباب و يتدلى فكه و تتراخى ذراعاه في شبه غيبوبة ..
و الوقت يمضي .. و النهار ينتصف و يبدأ المقهى ينفض .. و تتحول الطبيعة النابضة إلى طبيعة ميتة .. الكراسي مصطفة في دوائر كل منها ينظر إلى الآخر كأنه يتكلم .. و على ظهر كل منها بقعة كبيرة من الزيت و العرق .. و على مقابضها بصمات متلاصقة .. و على الأرض آثار البُلَغ و الأحذية و القباقيب و الأقدام العارية و أعقاب السجائر .. و في الركن الشيشة تستند إلى الحائط و جمراتها ما زالت تنفث الدخان .. و على الحوض عشرات الأكواب مقلوبة ، و المعلم يفتح درج الحساب و يعد القروش ، و الجرسون يجلس القرفصاء على الأرض و قد اعتمد رأسه بين يديه ، و أمامه على الحائط تتدلى لوحة كبيرة مكتوب عليها بالكوفي .. يا رب . و إلى جوارها صورة للحرم النبوي .. و كشف طويل بأسعار الينسون و القرفة و القهوة و الشاي و المعسل .. و في الناحية الأخرى .. يتكوم الحاج أمين العجوز .. و أمامه السواك و المنشة .. و قد استغرق في نوم عميق .. و إلى جواره يجلس المعلم زكي .. الزوج الثائر لكرامته يلعب وحده أمام طاولة مفتوحة و يلقي بالزهر في عصبية .. و الصمت يلف المكان .. و يدوي له صوت في الأذن .. صوت أعلى من الضجة ..
و يتحرك المعلم زكي لينهض .. و في رأسه نية مبيتة .إنه ذاهب إلى مطلقته و هو ينهب الأرض بخطوات مسرعة و قد كشر عن أنيابه .. و شدد القبضة على عصاه .. لن تعيش فطومة بعد اليوم ، سوف تصبح في عداد الموتى ..
و يعبر الميدان و أعصابه تغلي .. و يقطع شوطاً حامياً من المشي في عدة شوارع و أزقة بدون هدف .. ثم يبدأ في الهدوء .. و تتبخر ثورته . و تذهب مع العرق . و تتراخى قبضته على عصاه و يقف عند قصَّاب ليشتري عدة أرطال من اللحم ، ثم يقف مرة أخرى أمام قفص الدجاج ليشتري بطة .. ثم يضرب في الأزقة حتى يبلغ سوق الفاكهة فيشتري لبشة قصب .. و يحمل هذه الهدايا كلها إلى بيت فطومة .. و يقف أمام الباب يدقه في فرح حيواني ، و هو يبرم شاربه .. و يتخيل الليلة المقبلة .. و فطومة في أحضانه و خدها يتلوى تحت شفتيه .. و يجري ريقه بطعم ساخن طري كطعم الملبن .. فيدق من جديد .. و قد تدفقت في عروقه رغبة ملحة .. و في نفس الوقت .. تدق ساعة الميدان ..
لقد مضت ثلاث ساعات من الوقت .. الوقت الرخيص .    

                                                                                                 د. مصطفى محمود


شاركها مع أصدقائك!
تابعني→
أبدي اعجابك →
شارك! →

0 التعليقات :

إرسال تعليق